الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، أمّا بعد :
فإن من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ، أن الله تعالى قد حرّم الرّبا ، وجاءت الآيات متوعدة من يتعامل بالربّا بالحرب من الله ورسوله ، ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الرّبا ، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ، ما بلغ من التهديد في أمر الرّبا ، يقول الله تعالى في كتابه العزيز :
“ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ “ (البقرة275 –276 ).
وقال: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ “ (البقرة 278 – 279 ) .
وقال: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ “ ( آل عمران 130:132) .
وجاءت السنة النبوية تبين أن الرّبا من الكبائر ، ومن الجرائم الموبقات المهلكات ، وأن اللعنة تلحق من يأكله ، ومن يطعمه غيره .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : “ اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : يا رسول الله : وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات” (البخاري2766) .
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “ إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم “ (صحيح الترغيب2831).
وتفشي الربا في المجتمع سبب من أسباب وقوع العذاب ، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال : “ ما ظهر في قوم الزنا أو الربا ؛ ألا أحلّوا بأنفسهم عذاب الله “ (صحيح الترغيب2402) .
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال : “هم سواء” (صحيح مسلم1598) ، واللعن هو الطرد من رحمة الله .
وعاقبة آكل الرّبا من أبشع ما يكون ، قال صلى الله عليه وسلم : “ رأيت الليلة رجلين أتياني ، فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم ، وعلى وسط النهر رجل ، بين يديه حجارة ، فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيهِ ، فردّه حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر ، فيرجع كما كان ، فقلت : ما هذا ؟ . فقال : الذي رأيته في النهر آكل الربا “ (البخاري2085) .
مفهـوم الربـا
معنى الربا في اللغة : الزيادة ، قال تعالى : “ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ “ .
ومعناه في الشرع : الزيادة في أشياء مخصوصة ، وعند النظر في تفسير الآيات التي حُرّم فيها الرّبا ، نجد أن أقوال العلماء تدور حول “ أن يكون للرجل على الرّجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني فيوخر عنه .
أقسـام الربـا
-
ربا الدّيون ، وهو الرّبا الذي حرّمه القرآن ، ويسمى أيضاً ربا النسيئة ، والنسيئة معناها: التأخير ، لأنه ناتج عن تأخير الدائن مبلغ القرض عن المدين نظير زيادة على أصل القرض ، وهو ما كان شائعاً في الجاهلية ، إذ كانوا يقرضون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلّ أجل الدَّين ، طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء ، زادوا في الحق والأجل ، وطبقوا القاعدة الجاهلية “ إمّا أن تقضي ، وإمّا أن تربي “ .
والدّين إمّا أن يكون ناتجاً عن قرض كما في المثال السابق ، أو يكون ناتجاً عن بيع آجل ، فإذا حل الأجل ولم يدفع المشتري الثمن ، إلتزم بدفع زيادة عليه مقابل الزيادة في الأجل ، وهو ما يفعله كثير من التجار اليوم عند البيع بالتقسيط ، حيث يأخذون زيادة من المشتري عن تأجيل دفع الأقساط عن موعدها المحدد ، ويسمونها “فوائد التأخير” .
-
ربا البيوع ، وهو الذي جائت السنة بتحريمه ، وهو نوعان ، ربا الفضل أي الزيادة ، وربا النسيئة أي التأخير والتأجيل ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم “ الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد “ ( مسلم1587) وفي رواية أخرى “ فمن زاد أو استزاد فقد أربى . الآخذ والمعطي فيه سواء “ ( مسلم1584) .
وحتى يتسنى لنا فهم هذا الحديث أكثر ، نذكر ثلاث حالات :
الأولى : أن يتحد المبيع بجنسة من الأصناف الربوية : كم يبيع الذهب بالذهب ، أو تمراً بتمر ، إلخ ما ذكر في الحديث ، فيشترط لهذه الحالة شرطان :
1- التقابض في نفس المجلس ، فيسلم ما يبيعه ويأخذ ما يشتريه في نفس المجلس ، وإلا فلا يجوز تأخير شيئ منهما حتى لا نقع في ربا النسيئة ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم “ يداً بيد “ .
2- المماثلة ، أي أن يتساوي المباع والمشترى ، فيكون وزن الذهب المباع كوزن الذهب المشترى ، والتمر المباع كالتمر المشترى ، حتى لو كان أحدهما جيداً والآخر رديئاً ، حتى لا نقع في ربا الفضل ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم “ مثلاً بمثل ، سواء بسواء “ ، والصحيح هو أن نبيع القديم بثمنه ثم نشتري الجديد بثمنه .
الثانية : أن يختلف المبيع عن جنسه مع إشتراكهما في علّة الرّبا ، كأن يبيع ذهباً بفضة ، فالجنس مختلف والعلّة واحدة وهي الثمنية ، أو يبيع تمراً بـبُرّ ( البر هو القمح ) فالجنس مختلف والعلّة واحدة وهي القوت ، ففي هذه الحالة يشترط شرط واحد هو التقابض في نفس المجلس ، فقد قال صلى الله عليه وسلم “ بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد ، وبيعوا الشّعير باللتمر كيف شئتم يداً بيد “ (البخاري ومسلم).
ويدخل في هذه الحالة تجارة العملة ، فيجوز بيع الدولار بالجنيه ، وغير ذلك من العملات بشرط التقابض في نفس المجلس .
الثالثة : أن يختلف المبيع عن جنسة ، مع إختلافه في العلة ، كأن يبيع الشعير بالذهب ، أو التمر بالفضة ، فهذا جائز بلاشرط ، فيجوز فيه التفاضل ، ويجوز فيه التأخير .
أضـرار الرّبـا
لا شكّ أن الربا –شأنه شان كلّ ما حرّمه الله – له مفاسد عظيمة ، ومخاطر جسيمة على الفرد والمجتمع ، وعلى النظام الإقتصادي ذاته ، وفي النقاط التالية بعض من أضرار الرّبا ومفاسده :
- الرّبا يولّد لدى الإنسان الأنانية وحب النفس ، فلا يهمه إلا مصلحته ومنفعته .
- تتلاشى روح الإنسانية بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فلا يحسن أحد إلى أحد ، ولا يعطف احد على أحد .
- يولد الكراهية والعداوة بين أفراد المجتمع ، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان، والتعاون والإحسان .
- يزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمر قواعد المحبة والإخاء .
- ساهم الرّبا في زيادة مشكلة البطالة بين طوائف كثيرة من المجتمع ، إذ إن كثيراً من الناس قنع بما يتعاطاه من الرّبا من البنوك ، دون أن يمارس إنتاجاً في الحياة .
- لو لم يكم من مفاسد الرّبا إلا الأزمة المالية الأخيرة لكفى بها مفسدة .
هذا ما تيسّر جمعه حول مفهوم الرّبا وبعض من المفاسد المترتبة عليه ، وهذه المقالة بمثابة المقدمة إلى سلسلة نتحدث فيها عن الرّبا وما يترتب عليه من معاملات محرّمة ، نسأل الله التوفيق .