الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، أمّا بعد :
نواصل معاّ الحديث عن فقه البيوع ، وقد وصلنا للحديث عن البيوع المحرّمة بسبب الغرر ، وفقاً للتقسيم الذي ارتضيناه في مقدمة السلسلة ، وللحديث عن البيوع المحرّمة بسبب الغرر لابد لنا أولاً من معرفة معنى الغرر ، حتى يتسنى لنا فهم الحكمة من تحريمه .
مفـهـوم الغـرر
معنى " الغرر" في اللغة دائر على معنى النقصان والخطر ، والتعرض للهلكة ، والجهل . ومعناه في الإصطلاح كما بيّنة ابن القيّم – رحمه الله - : مالا يـُعلم حصوله ، أو لا تـُعلم حقيقته ومقداره .
ويأتي تحريم الغرر من حرص الإسلام على حفظ أموال الناس ، وعدم أكل أموالهم بينهم بالباطل ، وحرصه على زرع معاني الأخوة والمحبة بين المسلمين ، لأن البيوع المحتوية على غرر ، تؤدي إلى وقوع الخلاف والنزاع بين المسلمين .
هل كل الغرر محرّم ؟
بيع الغرر حرام ، وهو أصل من أصول فقه البيوع ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " ، لكن ليس كل الغرر محرّم ، فإذا كات الغرر يسيراً تدعو إليه الحاجة ، أو يتسامح الناس بمثله – ومردّ ذلك إلى العرف - فلا يؤثر ذلك في البيع ، كالجهل بأساس الدّار المباعة ؛ والممنوع هو الغرر الفاحش ، الذي يؤدي إلى الخصومة وأكل أموال الناس بالباطل .
أنــواع الغــرر
من الغرر ما يقع في الشيئ محل العقد ( السلعة التي يتضمنها العقد ، أو ثمن تلك السلعة ) ، فمن الغرر في محل العقد :
- الجهل بجنس المحل ، كأن يقول : بعتك سلعة بعشرة ، أو بعتك ما في كمّي بعشرة ، هكذا دون تحديد جنس السلعة المباعة .
- الجهل بنوع المحل ، فلو قال شخص لآخر : بعتك حيواناً بكذا ، دون أن يبين نوع هذا الحيوان أهو من الجمال أم الشّاء ، فالبيع فاسد لجهالة النوع .
- الجهل بصفة المحل ، منها بيع ما تلده البهيمة ، فالبيع معلّق على ولادة البهيمة ، فإن ولدت لزم المشتري الثمن على أي صفة جاء بها المولود ، وإن لم تلد ، فلا يكون هناك بيع ، لهذا اعتبر هذا البيع ممنوعاً للجهل بصفة المبيع .
- الجهل بمقدار المحل ، فلا يصح بيع سلعة مجهولة القدر ، أو بيع سلعة بثمن مجهول القدر .
- الجهل بذات المحل ، كبيع ثوب من ثياب مختلفة ، أو بيع شاة من قطيع ، دون تحديد ذات السلعة المباعة .
- الجهل بالأجل ، كالبيع بثمن مؤجل إلى أجل غير محدد ، كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ، وفي ذلك غرر ناشئ من تأجيل الثمن إلى أجل مجهول .
- عدم القدرة على التسليم ، فلا يصح بيع ما لا يقدر على تسليمه ، كالبعير الشارد الذي لا يعلم مكانه ، أو بيع الدين بالدين ، أو بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه .
- التعاقد على المعدوم ، وفيه قاعدة " أن كل معدوم في الحال ، مجهول الوجود في المستقبل ، لا يجوز بيعه ؛ وأن كل معدوم محقق الوجود في المستقبل ، بحسب العادة ، يجوز بيعه " .
- عدم رؤية المحل ، وهو ما يعرف ببيع " العين الغائبة " ، واختلف الفقهاء في جواز بيع العين الغائبة ، فقال بعضهم : لا يجوز مطلقاً ، ولابد من مشاهدة العين المبيعة وقت العقد ؛ وقال الجمهور بجوازها على الصفة ، وأثبتوا حيار الرؤية ، فإن رأى المبيع على غير ما وُصف له ، فله الخيار في إمضاء البيع أو فسخه .
ومن الغرر ما يقع في صيغة العقد وله صور متعددة نذكر منها ما يلي :
- النهي عن بيع الحصاة ، واختلف في تفسيره فقيل : هو أن يقول : إرم بهذه الحصاة ، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا ، وقيل : هو أن يبيعه من أرضه بمقدار ما انتهت إيه رمية الحصاة ، وقيل : أن يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصى ، ويقول : لي بكل حصاة درهم .
- النهي عن الملامسة والمنابذة : فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : “ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع “ .
أمّا الملامسة : أن يتساوم الرّجلان في سلعة ، فإذا لمسها المشتري لزم البيع ، فيجعلان نفس اللمس بيعاً .
وأمّا المنابذة : فأن يتساوم الرجلام في سلعة ، فإن نبذها البائع إلى المشتري ، لزم المشتري البيع ، فليس له ألا يقبل ؛ ومعني ينبذ : يبرز ويخرج . - البيع المعلّق : هو ما علّق وجوده على وجود أمرِ آخر ممكن الحدوث ، مثل أن يقول شخص لآخر : بعتك داري هذه بكذا ، إن باعني فلان داره ، فيقول الآخر قبلت ؛ وكلا المتبايعين لا يعلم هل يحصل الأمر المعلّق عليه فيتمّ البيع ؟ أم لا يحصل فلا يتمّ ؟ ، وقد يحصل في وقت تكون رغية البائع أو المشتري فيه قد تغيّرت ، ففي البيع المعلّق غرر من حيث حصوله من عدمه ، ومن حيث وقت حصوله ، ومن حيث الرضا عند حصول المعلق عليه .
- البيع المضاف : وهو ما أضيف إليه الإيجاب إلى زمن المستقبل ، كأن يقول أحدهما بعتك داري هذه بكذا من أول السنة القادمة ، فيقول الآخر قبلت ؛ ومدخل الغرر إلى البيع المضاف هو إحتما تغير ظروف أحد طرفي العقد ( البائع أو المشتري) أو تغيّر ظروف السوق مثل ارتفاع ثمن السلعة أو انخفاضه ، وربما تغيرت السلعة نفسها ، فيقع النزاع بينهما . والغرر في البيع المعلّق أظهر منه في البيع المضاف .
- النهي عن المزابنة والمحاقلة : فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : “ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة “ .
أمّا المزابنة : فهي شراء التّمر بالتّمر على رءوس النخل ؛ أي يقدّرون التّمر الذي على النخل دون أن يقطع ، فيبيعونه بهذا التقدير بتمر عند المشتري بالكيل ، فهذا البيع على هذه الصورة لا يجوز .
وأمّا المحاقلة : فهي كالمزابنة لكنها خاصّة بالحبوب فقط ، وهي بيع الحبّ في سنبله بكيل من الطعام معلوم ، وعرّفها بعضهم بأن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها ، وفيها مسألتان :
الأولى : أن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها مشاعاً ، كأن يؤجرها بربع المحصول أو ثلثه ، فهذه الحالة جائزة .
الثانية : أن يؤجرها ببعض المحصول من مكان معين من الأرض ، فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر ووقوع النزاع . - بيع العـُربـُون أو العـُربان : وفيه يدفع المشتري للبائع مبلغاً من المال ، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوباً من الثمن ، وإن ترك السلعة فالمبلغ للبائع .
ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز هذا العقد لما فيه من الغرر والمخاطرة والنزاع ، وذهب الشيخ العثيمين إلى صحته ، وجوّزه المجمع الفقهي سواء في البيع أو الإجارة إذا قيّدت مدّة الأنتظار بزمن محدد . - النهي عن بيع السنين أو المعاومة : ويقصد به بيع ثمر الشجر لمدة عامين أو ثلاثةأو أكثر ، فهذا لا يجوز .فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : “ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة “ .
- النهي عن الثنيا : وهي الإستثناء في البيع ، وهو على صورتين :
الأولى : إستثناء غير محدد : كأن يقول بعتك هذه الأشجار أو الثياب إلا بعضها ، فهده الحالة لا تجوز لجهالة المستثنى .
الثانية : استثناء محدد ، كأن يقول بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة ، فهذه جائزة لعدم جهالة المستثنى .
هذا وقد نبّه العلماء على أهمية معرفة الغرر ، وما ينتج عنه من صور مختلفة ، وأنه أصل من أصول فقه البيوع ، وعليه يقاس الحكم على الكثير من المعاملات المالية المعاصرة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .